مفهوم الشعر عميق وتأثيره كبير، فهذا الفن الأصيل الذي رافق الإنسان منذ الأزل، يمثل صوت الروح وصدى العواطف. فهو تعبيرٌ مكثف عن المشاعر والتجارب الإنسانية، وسيلة أبدع فيها العرب في عصر الجاهلية وما بعده، حيث يعكس الشعر قوة لغتهم وجمال تعبيرهم. إذا كان النثر هو عقل الأدب، فإن الشعر هو قلبه ونبضه؛ لغة ساحرة تُستخدم فيها الكلمات لتكوين لوحات فنية تحمل أعمق المعاني.
ما هو مفهوم الشعر؟
الشعر نوع من الأدب الفني الراقي حيث أن المحتوى بوجود الوزن أو القافية قد يجسد استقرارًا لفظيًا رائعًا، بمعنى قوة وجمال التعبير. ومع ذلك، كما يقول البعض، الشعر لا يُكتب بالكلمات على الإطلاق بل بالصدق والاحساس، والكتابة هي تعبير عن المشاعر. وبالتالي، من الصعب تحديد مفهوم موحد لهذا الفن؛ فهو يختلف اختلافًا كبيرًا من ثقافة إلى ثقافة ومن فترة زمنية إلى فترة زمنية.
تعريف الشعر لغةً واصطلاحاً
- لغةً: يُعرّف الشعر في اللغة بأنه كلام موزون ومقفى. يستند إلى أوزان معينة ترتكز على الجرس الموسيقي، مما يجعله مختلفًا عن النثر العادي. يقول الجاحظ:
الشعر هو كلامٌ يُحيط بالموسيقى والوزن، ويحمل في طياته عذوبة التعبير وحكمة الكلمات.
- اصطلاحاً: أما اصطلاحًا، فالشعر هو فن من الفنون الأدبية، يقوم على التلاعب بالألفاظ واستعمال الصور الفنية والأخيلة للوصول إلى المعنى المقصود. يُعرفه ابن منظور في معجمه “لسان العرب” بقوله:
الشعر هو الكلام الموزون الذي تلتزم فيه القافية، وهو نظم معانٍ خاصة تصحبها موسيقى معينة تُحدث تأثيرًا في النفس
لماذا سمي الشعر بهذا الاسم؟
تعود تسمية الشعر بهذا الاسم إلى عدة أسباب؛ أهمها ما يحتويه من شعور وإحساس، فالقصيدة الشعرية تلامس القلوب وتستثير المشاعر وتترجم الأحاسيس بكلمات بليغة. ويرى البعض أن الشعر يشتق من “الشعور” لأنه يعبر عن أعمق الأحاسيس الإنسانية بأسلوب فني.
وقد قيل أيضًا إن أول من استخدم كلمة “شعر” للدلالة على هذا الفن هو ابن حذام الكلبي، الذي قال الشعر وأبدع فيه، ليصبح منذ ذلك الحين فنًا يتوارثه الشعراء عبر الأجيال.
أجمل ما قيل في الشعر
لطالما كانت للشعر مكانة عظيمة في التراث الأدبي العربي، حيث تناقل الأدباء والشعراء الحكم والأقوال التي تمدح هذا الفن وتصف جماله. من أبرز ما قيل في وصف الشعر:
- قال الشاعر أبو تمام:
وَالشِعرُ في السِحْرِ إِنْ كَانَتْ بَقِيَّتُهُ
يُشْفَى بهِ سَقَمٌ من كَانَ ذَا عِلَلِ
يرى أبو تمام في الشعر سحرًا خفيًا يشفي القلوب ويخفف الأوجاع، وهو تعبير عن فكرة سادت عبر العصور بأن الشعر يحمل قوة تأثيرية عظيمة.
- المتنبي، أحد أبرز شعراء العربية، قال عن الشعر:
لا تَحسَبَوا رَبْعَكُمْ وَلَوْ شَجَرًا
أَخْلى مِنَ الوَحْشِ إِنْ تَحُلُّوهُ فِي خَلَدِ
المتنبي كان يرى في مفهوم الشعر وسيلة للحياة، فنراه يشبّه الشعر بالأشجار التي تنمو وتبقى رمزًا للذكريات.
- أما أرسطو الفيلسوف اليوناني فقد اعتبر أن الشعر هو “أكثر تفلسفًا من التاريخ”، لأنه يتناول الكليات ولا يتوقف عند الجزئيات، مما يعني أن الشعر يستمد قوته من تعبيره عن القيم الإنسانية العامة.
خصائص الشعر
الشعر يمتلك خصائص فريدة تجعله مميزًا عن غيره من الفنون الأدبية، ومن أهم هذه الخصائص:
- الوزن والقافية: يتبع الشعر نظامًا موزونًا يعتمد على أوزان الشعر العربي التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو ما يعطي القصيدة تناسقًا موسيقيًا.
- العاطفة: الشعر نابع من عاطفة عميقة، يعبر عن مشاعر الفرح والحزن والحب والشوق والغضب وغيرها. يقول أحد الشعراء:
ليس الشعر رأيًا تعبر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم
- التخييل: يستخدم الشعراء التخيل والرموز والاستعارات لتوصيل الأفكار والمشاعر، مما يعطي النص بعدًا جماليًا.
- الإيجاز: رغم أن الشعر قد يكون مكثفًا في المعاني، إلا أنه يميل إلى الإيجاز واختصار الأفكار، بحيث يكون لكل كلمة وزن وتأثير فيجل للشعر مفهوما متميزا.
أغراض الشعر العربي
تنوعت أغراض الشعر العربي بشكل كبير لتشمل كل جوانب الحياة. ومن أهم هذه الأغراض:
- الغزل: يعد الغزل من أشهر أغراض الشعر، ويعبر عن مشاعر الحب والعشق. ومن أروع ما قيل في هذا الغرض:
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
في هذه الأبيات، يعبر الشاعر عن استسلامه الكامل لعواطفه نحو المحبوبة، مما يظهر جمال الحب وتعلقه بالمحبوب.
- المديح: كان الشعراء يمتدحون الملوك والأمراء وشيوخ القبائل في قصائد المدح، ومن أجمل أبيات المدح قول الشاعر المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
هنا يشجع المتنبي على الطموح والسعي وراء العظمة، متحدثًا عن صفات الشرف والعزة.
- الهجاء: كان الهجاء يستخدم لانتقاد الشخصيات والقبائل، وأحيانًا يصفه البعض بأنه سلاح الشاعر لإذلال خصومه. ومن أبيات الهجاء المشهورة، قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ
حسبتَ الناسَ كلهمُ غضابا
جرير كان شاعر هجاء قوي، يستخدم شعره لانتقاد خصومه بطريقة لاذعة.
- الرثاء: الرثاء يعبر عن الحزن والأسى لفقدان شخص عزيز. ومن أروع أبيات الرثاء ما قاله الخنساء في رثاء أخيها صخر:
يُؤَرِقُني لِلذِكرى إِذا جَنَّ ليلُها
إِذا نُبِّهَتْ مِن نَومِها زَفراتُ
هذه الأبيات تعبر عن ألم الخنساء العميق بفقدان أخيها، حيث نجد فيها إحساسًا صادقًا يلامس القلوب.
- الوصف: يعتمد الشاعر على الوصف لتصوير مناظر الطبيعة أو ملامح الأشخاص. ومن أروع أبيات الوصف قول الشاعر:
كأنَّ النجمَ زهرٌ في السماء
وصدفٌ بيضٌ في بحورِ النقاء
- الحكمة: في هذا الغرض، يقدم الشاعر نصائح وحكمًا مستخلصة من تجاربه. ومن أبرز أبيات الحكمة قول أبو العتاهية:
لا تأمن الدهر إن الدهر ذو غِيَر
وطبْ نفسًا إذا حكم القضاءُ قضى
وظائف الشعر وأهميته في المجتمع
يؤدي الشعر وظائف متعددة في المجتمع، فهو ليس مجرد كلام موزون أو فن للتسلية. بل له دور كبير في التعبير عن القيم الثقافية ونقل المعرفة والأحداث التاريخية. بعض هذه الوظائف:
- التواصل بين الأجيال: يمثل الشعر وسيلةً لنقل الحكمة والتجارب الإنسانية من جيل إلى جيل، خاصة في المجتمعات التي تعتمد على الشفاهة في نقل الثقافة.
- إلهام المشاعر: يمتلك الشعر القدرة على لمس المشاعر الإنسانية وإثارتها. يقول الشاعر:
تَنامُ العُيونُ عَلَى جُرحِها
وَتَصحو الفُؤادُ فَإِذَا الجُرحُ بِاحِ
- التأمل في الكون والحياة: يدعو الشعر إلى التفكير في الحياة والكون والإنسان. كما نجد عند أبو العلاء المعري تأملات فلسفية حول الحياة:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد
- التعبير عن الهوية والانتماء: يعتبر الشعر وسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية، ويساعد في تعزيز الانتماء لدى الأفراد.
مفهوم الشعر العربي بين الماضي والحاضر
في العصور الجاهلية، كان الشعر جزءًا مهمًا من حياة العرب، إذ كان يُستخدم للتفاخر بين القبائل، كما كان يُعتبر أداةً للتعبير عن قضايا المجتمع والتاريخ. ومع مرور الوقت، تطور الشعر ليشمل أشكالًا جديدة مثل الشعر الحديث، حيث يميل الشعراء إلى التجديد واستخدام الرموز بشكل أكبر.
يقول نزار قباني، أحد أبرز شعراء العصر الحديث، في تعريفه للشعر:
الشعر موقف أخلاقي من كل الأشياء ومن كل الأحياء، إنه طهارة من الداخل وطهارة من الخارج، و لا أقدر أن أفهم كيف يستطيع شاعر يختزن السواد في أعماقه أن يكتب على ورق أبيض.
أمثلة لأبيات شعرية شهيرة
من أبرز الأبيات التي رسخت في ذاكرة الأدب العربي، نجد:
- قول عنترة بن شداد في الفخر:
أنا الموتُ يَعلو الهامَ حيثُ أكونُ
وصاحبيَ السيفُ والأيَّامُ والرُّمُدُ
- قول أبي فراس الحمداني في الأسر:
ولقد شَفَى نفسي وأبرَأ سُقمَهَا
قِيلُ الفَوَارِس وَيْك عنتر قادم
- قول البحتري في الوصف:
كأنَّ المثاني شربت في دنانها
عصيرَ الرحيقِ المصفّى من الدِّبس
مفهوم الشعر بين الفلسفة والحكمة
الشعر بين الفلسفة والحكمة قد لا يختلف بشكل كبير. يرى كثير من الفلاسفة مثل أرسطو أن مفهوم الشعر يحتوي على فلسفة تعمم وتدل على الحقائق الأساسية للحياة. حيث قال: “الشعر أكثر فلسفة من التاريخ، فهو يعمم أكثر، والتاريخ يهتم بالجزئيات”. وفي الإطار نفسه يرى نزار قباني أن الشعر موقف أخلاقي يبلور نقاء الشاعر الداخلي والخارجي، لأنه ينبع من نقاء وصدق القلوب.
خلاصة
لا يزال الشعر أحد أهم أشكال التعبير الفني والأدبي الموجودة لأنه يسمح بالتعبير عن المشاعر واستكشاف الذات ونقل الأفكار بأشكال وأنماط متنوعة تعمل كفن دائم يتم تجديده باستمرار مع كل جيل جديد. مع مرور الوقت والموضوعات المختلفة التي يتناولها الشعراء. لا يزال الشعر يتمتع بسحر القدرة على التحدث إلى القلوب وإلهام عقول القليلين. في التحليل الأخير، يوفر الشعر صلة بين الماضي والحاضر، وبين الناس وبين الثقافات، وبالتالي فهو يعتبر أصلًا ويعتبر ذا قيمة كبيرة في بناء مجتمعاتنا وثقافتنا.