المسيرة الخضراء واحدة من أبرز المحطات في تاريخ المغرب الحديث. لقد شكّلت منعطفًا سياسيًّا وجماهيريًّا. هذا الحدث أسهم في ترسيخ الروح الوطنية وإبراز التلاحم بين الملك والشعب. وقد برهنت هذه المسيرة، التي جرت في 6 نوفمبر 1975، على قدرة المغرب على الدفاع عن وحدته الترابية بالطرق السلمية، وجسّدت في الوقت ذاته تنظيمًا مُحكمًا عكس مدى استعداد المجتمع المغربي للتجاوب مع التوجيهات الوطنية. في هذا المقال الحصري، نتعرّف تفصيليًّا على الخلفيات التاريخية للمسيرة الخضراء، ونخوض في تفاصيل تنظيمها، ثم نتناول نتائجها وأبعادها الإقليمية والدولية، مع إبراز التواريخ والأحداث المفتاحية.
1. الخلفية التاريخية: إرهاصات المشكلة الصحراوية
1.1 الدور الإسباني في الصحراء
لا يمكن فهم المسيرة الخضراء دون الرجوع إلى الحضور الاستعماري الإسباني في الصحراء المغربية. منذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت إسبانيا تفرض سيطرتها على أجزاء من الساحل الصحراوي، متناسية الروابط التاريخية التي تربط السكان بسلطان المغرب. وفي بدايات القرن العشرين، تزايدت الأطماع الاستعمارية في المنطقة، ما ولّد توتّرات متكررة بين القبائل الصحراوية وسلطات الحماية الإسبانية.
توالت المعاهدات والاتفاقيات بين القوى الاستعمارية، ما جعل إسبانيا تُحكم قبضتها على المنطقة المعروفة آنذاك باسم “الساقية الحمراء ووادي الذهب”. ومع اقتراب منتصف القرن العشرين، بدأت التشكيلات الوطنية تتشكل ضد الاستعمار في العالم العربي. تأثرت إفريقيا بإنهاء الاستعمار في مناطق عديدة.
1.2 المغرب بعد الاستقلال
نال المغرب استقلاله عن فرنسا عام 1956، واستمر نضاله لاسترجاع الأقاليم التي بقيت تحت السيطرة الاستعمارية. فبعد استرجاع منطقة طرفاية سنة 1958، ومدينة سيدي إفني عام 1969، ظلّت الصحراء تحت الحكم الإسباني. اشتدت المطالب الشعبية والرسمية في المغرب بضرورة استكمال الوحدة الترابية واسترجاع المناطق الجنوبية، خاصةً مع تزايد الوعي الدولي بمشروعية مطالب الشعوب في تقرير مصيرها.
1.3 رأي محكمة العدل الدولية
في ظلّ هذا السياق، قرّر المغرب نقل ملف الصحراء إلى محكمة العدل الدولية، لعلّ رأيها القانوني يسهم في تدعيم الموقف المغربي. وقد أصدرت المحكمة رأيها الاستشاري في 16 أكتوبر 1975، مؤكدةً وجود روابط قانونية وبيعة تاريخية بين ملوك المغرب والقبائل الصحراوية. هذه الخلاصة عزّزت شرعية المطالب المغربية، رغم محاولة إسبانيا الاستمرار في إدارة المنطقة بطرق تُؤجّل الحسم.
2. إعلان المسيرة الخضراء: من الفكرة إلى التنفيذ
2.1 خطبة الملك الحسن الثاني
في 16 أكتوبر 1975، وبعد صدور رأي محكمة العدل الدولية، ألقى الملك الحسن الثاني خطابًا. دعا فيه الشعب المغربي إلى تنظيم مسيرة سلمية نحو الصحراء. كان الهدف تأكيد الانتماء الوطني لهذه الأراضي.
وكان للخطاب تأثير بالغ في الأوساط الشعبية. إذ تهافت المواطنون على التطوّع والمشاركة في هذه المبادرة غير المسبوقة على المستوى الإقليمي والعالمي.
2.2 استراتيجية سلمية فريدة
تميّزت فكرة المسيرة الخضراء بطابعها السلمي؛ فلم يُدَعَ المشاركون إلى حمل السلاح، بل طُلب منهم اصطحاب المصحف الكريم والأعلام الوطنية. هكذا، عبّرت المسيرة عن تمسّك المغاربة بقضيتهم دون السقوط في دوامة العنف أو إثارة مواجهات مع الجيش الإسباني. وكانت هذه المقاربة الدبلوماسية-الشعبية رسالةً إلى العالم بأن المغرب قادر على توظيف القوة الناعمة في مطالبه المشروعة.
2.3 الرمزية والدلالة
لم تكن التسمية “الخضراء” عشوائية؛ فقد حملت دلالة رمزية مرتبطة بالسلام والأمل. كما جسّدت الرغبة في استرجاع الأرض عبر أسلوب حضاري وسلمي، في زمنٍ كانت فيه أغلب حركات التحرر تُمارس أشكالًا مختلفة من المقاومة المسلحة. وبفضل هذا النهج المبتكر، حظيت المسيرة بتأييد واسع داخل المغرب وخارجه، وأصبحت حدثًا مفصليًّا رسّخ في الذاكرة الجماعية أسلوبًا سلميًّا للمطالبة بالحقوق التاريخية.
3. تفاصيل التحضيرات والتنظيم
3.1 التعبئة الشعبية
منذ إعلان الملك الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة، انخرطت مختلف شرائح المجتمع في دعمها. طلبة الجامعات، وفلاحون، وأساتذة، وموظفون، كلهم أعلنوا استعدادهم للالتحاق بها. أقيمت لجان تنظيمية في مختلف مدن المغرب، وتولّت تسجيل الراغبين في المشاركة. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد المتطوعين فاق المليون، إلّا أنّ السلطات حددت العدد بحوالي 350 ألف مشارك فقط، تفاديًا للازدحام وسوء التنظيم.
3.2 الجوانب اللوجستية
شكّل الجانب اللوجستي تحدّيًا كبيرًا؛ إذ وجب توفير وسائل نقل وإمدادات غذائية ومياه صالحة للشرب لمئات الآلاف من المواطنين في منطقة صحراوية شاسعة. تعاونت الوزارات المعنية، خاصةً الداخلية والصحة والجيش، على تهيئة القوافل وتأمين نقاط التزوّد بالمؤن. كما أُنشئت مراكز طبية متنقلة لتقديم الإسعافات الضرورية في حال حدوث أي طارئ.
3.3 موعد الانطلاق وتوزيع الأفواج
اختير 6 نوفمبر 1975 ليكون يوم انطلاق المسيرة، فأُعلن عن توزيع المشاركين على أفواج عديدة، مع ضمان وجود مشرفين إداريين ينسّقون التحرك على الميدان. وتقرّر أن تتوجّه هذه الأفواج نحو نقاط محددة قرب الحدود التي كانت تحتلها إسبانيا، انتظارًا لإشارة الدخول السلمي إلى الأراضي الصحراوية.
4. يوم 6 نوفمبر 1975: لحظة تاريخية
4.1 الأجواء والمشاهد الأولى
مع بزوغ فجر 6 نوفمبر، احتشد المتطوعون في أماكن التجمّع. ارتفعت الأعلام المغربية وخفقت مع نسائم الصباح، بينما تشكّلت مسيرات صغيرة متفرقة استعدادًا للّحظة الكبرى. وحين أعطيت الإشارة عبر أمواج الإذاعة الرسمية، انطلقت الجموع في مسيرات سلمية نحو الحدود، حاملين معهم المصاحف ورايات المغرب.
4.2 ردّ الفعل الإسباني
في تلك المرحلة، كان الجيش الإسباني متوتّرًا، لكنه تجنّب إطلاق النار، إذ استوعب الرسالة السلمية للمسيرة. ولمّا شاهد الجنود الحجم الهائل للمشاركين، اختاروا عدم التصعيد العسكري، خصوصًا بعد تأكّدهم من أن المشاركين لا يحملون أسلحة. إضافةً إلى ذلك، كانت هناك ضغوط دولية على إسبانيا تمنعها من اتخاذ أي خطوة قد تُحدث مواجهة دامية.
4.3 الأثر الإقليمي والدولي
أعادت المسيرة الخضراء رسم الخريطة السياسية في المنطقة. فرأى العالم كيف استطاع بلدٌ توحيد صفوفه حول قضية وطنية، وتحريك مئات الآلاف من المواطنين سلمًا نحو منطقة متنازع عليها. حازت المسيرة تغطية إعلامية واسعة في الصحافة العالمية، ما أكسب القضية المغربية زخمًا وعطفًا دوليًا. كما شهدت المنظمات الدولية نقاشات حادة حول مستقبل المنطقة.
5. النتائج المباشرة للمسيرة
5.1 اتفاقية مدريد (1975)
لم تمضِ سوى أسابيع بعد المسيرة الخضراء. وقّعت إسبانيا والمغرب وموريتانيا في 14 نوفمبر 1975 ما سُمّي بـ”اتفاقية مدريد“. هذه الاتفاقية قضت بإنهاء الوجود الإسباني في الصحراء. كما قضت بتقسيم المسؤولية الإدارية بين المغرب وموريتانيا. بالنسبة للمغرب، كان هذا الاتفاق خطوة نحو استرجاع أقاليمه الجنوبية. لا تزال هناك بعض الخلافات حول مسألة ترسيم الحدود.
5.2 تعزيز روح الوحدة الوطنية
زاد نجاح المسيرة من تلاحم المغاربة وراء ملكهم، ما عزّز شرعية النظام السياسي في الداخل. شعر المواطنون بقوّة كبرى متولّدة عن مشاركتهم الجماعية في حدث حاسم. وانطلقت برامج تنموية في المنطقة الصحراوية لإعادة اندماجها ضمن النسيج الاقتصادي والاجتماعي لباقي مناطق المغرب.
5.3 ردود الفعل المغاربية
حاولت بعض البلدان المغاربية، لا سيما الجزائر، إبداء موقف متحفظ أو معارض لتوسّع المغرب نحو الصحراء، وذلك لدوافع جيواستراتيجية. ومع ذلك، لم تفلح تلك المعارضة في وقف التحرك المغربي، رغم ما أفضى إليه من توتر إقليمي، خصوصًا مع إنشاء جبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء. ومع الزمن، باتت المسيرة الخضراء جزءًا من سردية المغرب للدفاع عن وحدته الترابية.
6. أبعاد المسيرة الخضراء على المدى البعيد
6.1 الجانب السياسي والقانوني
تمثّل المسيرة الخضراء أحد أهم الأحداث التي يستند إليها المغرب لتأكيد سيادته على الصحراء. فرغم تعاقب القرارات الأممية ومحاولات إيجاد تسوية سياسية عبر مفاوضات ترعاها الأمم المتحدة، يحافظ المغرب على موقفه الداعي إلى الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. ويرى المحللون أن المسيرة الخضراء قد تكون دلّلت على أن المغرب ملتزم بحل سلمي، وفي الوقت ذاته مصرّ على حقه التاريخي والقانوني.
6.2 التنمية في الأقاليم الجنوبية
بعد استرجاع الأقاليم الصحراوية، ركّزت الدولة المغربية على الاستثمار في البنى التحتية بهذه المناطق: إقامة الطرق، وإنشاء الموانئ، وتطوير الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم. وأصبحت العيون والداخلة وبوجدور مدنًا تشهد نموًّا حضريًّا متسارعًا. تماشياً مع روح المسيرة الخضراء، وُضعت خطط تنموية تضمن الارتقاء بمستوى العيش لدى السكان المحليين.
6.3 الذاكرة الوطنية والاحتفال السنوي
يخلِّد المغاربة ذكرى المسيرة الخضراء كل عام في 6 نوفمبر، من خلال احتفالات رسمية وخطابات ملكية، بالإضافة إلى أنشطة ثقافية ورياضية. ويعكس هذا التقليد مدى رسوخ المسيرة في الذاكرة الجماعية، وجعلها رمزًا للوحدة الوطنية. كما أنّ هذا الاحتفال السنوي يذكّر الأجيال الصاعدة بأهمية الدفاع السلمي عن القضايا الوطنية، والتضحيات التي قدّمها الأجداد في سبيل استكمال استقلال البلاد.
7. نقاط الجدل والتحديات الإقليمية
7.1 ملف الصحراء في المحافل الدولية
رغم نجاح المسيرة الخضراء في تحقيق مكاسب سياسية للمغرب، بقي ملف الصحراء مطروحًا على الطاولة الأممية. وتتوّلى بعثة “مينورسو” التابعة للأمم المتحدة عملية مراقبة الوضع وعقد جلسات تفاوض بين الأطراف المختلفة. ينادي المغرب بمشروع الحكم الذاتي بوصفه حلًا وسطًا وعادلًا، بينما يتمسّك الطرف الآخر (جبهة البوليساريو) بمطالب الاستفتاء لتقرير المصير.
7.2 العلاقات مع الجزائر
تسبّب الخلاف حول الصحراء في تعطيل مشروع بناء “اتحاد المغرب العربي”، وتأزّمت العلاقات المغربية-الجزائرية لسنوات طويلة. وعلى الرغم من بعض المحاولات لإعادة الدفء للعلاقات، لا تزال هذه القضية تشكّل عائقًا أمام أي تكامل اقتصادي أو سياسي إقليمي. علاوة على ذلك، يرى النظام العسكري الجزائري في المغرب تهديدًا له. يسعى لإبقاء الوضع متأزمًا. هذا يبرر استمراره في السلطة عبر خلق عدواة مستمرة مع المغرب.
7.3 الدروس المستفادة
وتبين هذه التجربة أن التسوية السلمية للمطالبات الإقليمية يمكن أن تتجنب الصراع المسلح المكلف. ولكن من ناحية أخرى، لا يمكنها إنهاء النزاعات الإقليمية من خلال الاتفاقيات وحدها. أي ملفات مماثلة تتطلب الحل النهائي. والحل يجب أن يأخذ في الاعتبار التوازن المعقد على الأرض. ولعل المسيرة الخضراء علمتنا ضرورة التصرف بشكل استباقي فيما يتعلق بالشرعية الدولية. علمتنا أيضا ضرورة دعم الحوار والتفاهم بين الجيران.
8. الاستنتاج: إرث المسيرة الخضراء في ضمير الأمة
بعد ما يقارب نصف قرن من انطلاق المسيرة الخضراء سنة 1975، لا تزال هذه الحادثة تحتل مكانة محورية في الوعي الجمعي المغربي. فهي تمثّل مثالًا ناجحًا لتوحيد شعبٍ خلف قضية وطنية، بوسائل سلميّة مبتكرة تفتقر إليها عادةً النزاعات الحدودية في العالم الثالث.
عبر هذه المسيرة، أظهر المغرب قدرته على تشكيل إجماع داخلي قوي، وإبراز القضية الوطنية للعالم بوجهٍ حضاري لا يقوم على التصعيد أو الاستفزاز العسكري. أحدثت المسيرة تغيّرات كبيرة في الخارطة الجيوسياسية الإقليمية. نقلت ملف الصحراء إلى مستوى تفاوضي دولي يراعي جزئيًّا الحق التاريخي للمغرب.
ويبقى المشهد احتفاليًا كل عام، حيث يستذكر المغاربة تضحيات أجدادهم وآبائهم في شدّ الرحال نحو الصحراء، حاملين الأعلام والمصاحف وأحلام استكمال الوحدة. واليوم، ورغم بقاء بعض التوترات الإقليمية والعراقيل السياسية، تظهر المسيرة الخضراء وكأنّها مرجع حاسم في الذاكرة الوطنية، ورمز للتضامن والتحرّك الشعبي المنظّم دفاعًا عن قضيّة عادلة.
باختصار، تظل المسيرة الخضراء درسًا تاريخيًّا غنيًّا حول أهميّة الابتكار في التغيير السياسي. تسهم الروح الوطنية الصادقة في تحقيق الأهداف الكبرى. كما تبقى شاهدًا على أنّ المغرب لم يدّخر جهدًا في تأكيد حقوقه المشروعة، وقدّم للعالم تجربة فريدة تجمع بين الدبلوماسية الشعبية والتوجيه الاستراتيجي للدولة، ما جعلها محطةً مفصلية في صناعة تاريخ المغرب الحديث.