تاريخ و جغرافيا

مضيق جبل طارق: التحولات الجيوسياسية والبيئية في (2025-2030)

المحتويات عرض

يشكل مضيق جبل طارق، تلك الفجوة الجغرافية الضيقة التي تفصل بين القارتين الأوروبية والأفريقية وتصل البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، بؤرة تركيز استراتيجي عالمي متجدد مع مطلع عام 2025. لا تقتصر الأهمية المعاصرة للمضيق على دوره التقليدي كشريان حيوي للتجارة البحرية العالمية فحسب. بل تتعدى الأهمية لتشمل تحولات هيكلية عميقة، حيث يتم إعادة إحياء مشروع “الربط القاري” (النفق البحري) بجدية غير مسبوقة. هذا التحول مدفوع باستحقاقات كأس العالم 2030. بالتوازي، تظهر تحديات بيئية معقدة مثل “تفاعلات الأوركا”. هذه التفاعلات باتت تهدد سلامة الملاحة الصغرى وتطرح تساؤلات جوهرية حول استدامة الأنشطة البشرية في المنطقة.


النقاط الرئيسية

  • مضيق جبل طارق يمثل نقطة استراتيجية عالمية تربط بين أوروبا وإفريقيا ويشهد تحولاً كبيراً نحو مشروع نفق بحري.
  • مشروع النفق يتم دفعه بإرادة سياسية قوية لتحقيق الربط القاري مع كأس العالم 2030 كمحفز رئيسي.
  • تفاعلات حيتان الأوركا تهدد الملاحة في المنطقة، مما يطرح تحديات جديدة لاستدامة الأنشطة البشرية.
  • ميناء طنجة المتوسط يستمر في تحقيق أداء قياسي ويعزز مكانته كقوة لوجستية في البحر الأبيض المتوسط.
  • المستقبل يحتاج إلى توازن دقيق بين تطوير البنية التحتية والحفاظ على البيئة لتحقيق التكامل بين الضفتين.

يقدم هذا التقرير البحثي المطول والموجه للنخبة المختصة وصناع القرار. يوفر تحليلاً استقصائياً شاملاً للوضع الراهن والآفاق المستقبلية لمشروع نفق جبل طارق. يعتمد على أحدث البيانات التقنية والدراسات الجيولوجية. يستند التقرير أيضاً إلى القرارات السياسية الصادرة حتى الربع الأول من عام 2025. كما يفرد التقرير مساحة تحليلية واسعة لظاهرة تفاعلات حيتان الأوركا. يعتمد على البيانات البيولوجية وإحصائيات السلامة البحرية. يهدف إلى رسم صورة متكاملة للمشهد المعقد في هذه المنطقة الحساسة.

القسم الأول: مشروع الربط القاري الثابت.. من الحلم الجيوسياسي إلى الواقع الهندسي

لطالما كان حلم الربط المادي بين أوروبا وأفريقيا يراود المخيلة السياسية والهندسية منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فإن التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي شهدتها السنوات القليلة الماضية كانت واضحة. الزخم الناتج عن الترشيح المشترك (المغرب-إسبانيا-البرتغال) لتنظيم كأس العالم 2030 زاد من أهمية هذا المشروع. لقد نقل هذا المشروع من خانة “الخيال العلمي” إلى خانة “الضرورة الاستراتيجية”.

1. السياق التاريخي والدينامية السياسية المتجددة

تعود الجذور المؤسسية للمشروع إلى الإعلان المشترك لعام 1979 بين العاهلين الإسباني والمغربي. كان الملك خوان كارلوس الأول والملك الحسن الثاني هما من اتخذوا هذه الخطوة. أدى هذا الإعلان إلى تأسيس هيكلة مزدوجة للمشروع. تم تأسيس الشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق (SNED) في الرباط. أيضًا، تم إنشاء الشركة الإسبانية لدراسات الاتصال الثابت (SECEGSA) في مدريد.1 على مدى عقود، تراوحت وتيرة العمل بين الركود والنشاط المتقطع، متأثرة ببرودة العلاقات الدبلوماسية تارة وبالتحديات التقنية تارة أخرى.

بيد أن عام 2023 شكل منعطفاً حاسماً، حيث أدت القمة رفيعة المستوى بين البلدين إلى إعادة تفعيل اللجنة المشتركة للمشروع بعد توقف دام سنوات.3 لم يعد المشروع يُنظر إليه كأداة للربط الثنائي فحسب. بل ينظر إليه الآن كحلقة وصل قارية. فهو يدمج شبكات النقل الأوروبية والأفريقية. هذا التكامل يعزز من التكامل الاقتصادي بين الشمال والجنوب. وتُظهر التحليلات أن تنظيم كأس العالم 2030 لا يمثل مجرد حافز رياضي. بل يعمل كمسرع زمني (Time Accelerator) يفرض مواعيد نهائية صارمة لإنجاز البنية التحتية. أو على الأقل الوصول إلى مراحل متقدمة من التنفيذ بحلول العقد القادم.1

2. المعضلة الجيولوجية واختيار المسار: “العتبة” مقابل “الخدود”

أحد أكثر الجوانب تعقيداً في هذا المشروع هو الطبيعة الجيولوجية العدائية لمضيق جبل طارق في البحر الأبيض المتوسط. وقد واجه المهندسون خياراً مصيرياً بين مسارين محتملين، كل منهما يحمل تحديات فريدة:

  • مسار “الخدود” (Route of the Canyon): يمثل المسار الأقصر جغرافياً (حوالي 14 كم) بين أضيق نقطتين في المضيق. ومع ذلك، تم استبعاد هذا الخيار نهائياً بسبب العمق السحيق للمياه الذي يصل إلى 900 متر. هذا العمق يتجاوز القدرات التقنية الحالية لإنشاء الأنفاق تحت ضغط مائي هائل. بالإضافة إلى ذلك، الانحدارات الحادة تجعل من المستحيل تشغيل قطارات السكك الحديدية بكفاءة.5
  • مسار “العتبة” (Route of the Sill/Umbral): هو المسار الذي وقع عليه الاختيار الاستراتيجي النهائي. يمتد هذا المسار غرباً من “بونتا بالوما” (Punta Paloma) بالقرب من طريفة في الجانب الإسباني، إلى “بونتا مالاباتا” (Punta Malabata) بالقرب من طنجة في الجانب المغربي. ورغم أن هذا المسار أطول بكثير، حيث يبلغ طوله الإجمالي حوالي 42 كيلومتراً (منها 27.8 كم تحت الماء)، إلا أنه يتميز بعمق مياه أقل لا يتجاوز 300 متر. هذا يسمح بتصميم نفق يمر بعمق أقصى يبلغ 475 متراً تحت سطح البحر، مع انحدارات لا تتجاوز 3%، مما يجعله ملائماً لقطارات السرعة العالية والشحن.6

الجدول 1: مقارنة الخصائص التقنية للمسارات المقترحة

الخاصيةمسار “الخدود” (Canyon Route)مسار “العتبة” (Umbral Route) – المعتمد
المسافة الجغرافية~14 كم (الأقصر)~42 كم (الإجمالي)، ~28 كم (تحت البحر)
أقصى عمق للمياهيصل إلى 900 متر~300 متر
عمق النفق المقترحمستحيل تقنياً حالياً~475 متر تحت سطح البحر
التحدي الجيولوجيانحدارات شديدة، ضغط مائي هائلتكوينات “Flysch” المعقدة، طول المسافة
نقاط الربطغير محددة بدقةبونتا بالوما (إسبانيا) – بونتا مالاباتا (المغرب)

3. التحديثات التقنية والدراسات الزلزالية (2024-2025)

شهدت الفترة ما بين أواخر 2024 وبداية 2025 نشاطاً مكثفاً في جانب الدراسات الميدانية. يعكس هذا الانتقال من مرحلة التخطيط النظري إلى التقييم الميداني الدقيق.

أ. الحملة الزلزالية الجديدة

نظراً لوقع المضيق في منطقة تلاقي الصفيحة الأفريقية والأوروبية الآسيوية (Azores-Gibraltar Transform Fault)، فإن الخطر الزلزالي يمثل الهاجس الأكبر لسلامة النفق. يمثل الخطر الزلزالي الهاجس الأكبر لسلامة النفق. في هذا السياق، اتخذت شركة SECEGSA خطوة عملية في نوفمبر 2024. قامت باستئجار أجهزة قياس زلازل قاع المحيط (OBS – Ocean Bottom Seismometers) عالية التقنية. هذه الأجهزة قادرة على العمل في أعماق تصل إلى 6000 متر. تهدف إلى رصد النشاط التكتوني الدقيق (Micro-seismicity). توفر أيضاً بيانات حاسمة لتحديث نماذج المخاطر الزلزالية. لم يتم تحديث هذه النماذج ميدانياً منذ عام 2014م.8

ويأتي هذا التحرك بالتعاون مع المعهد والمرصد الملكي للبحرية الإسبانية (ROA)، بالإضافة إلى شراكة استراتيجية مع هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) للاستفادة من خبراتهم العالمية في نمذجة المخاطر الزلزالية في البيئات البحرية المعقدة.9

ب. تحدي تربة الـ “Flysch” وتكنولوجيا الحفر

تتكون جيولوجيا منطقة “العتبة” من تكوينات صخرية تعرف بـ “Flysch” (الفليش)، وهي تتابعات رسوبية من الحجر الرملي والطين والطفل تتميز بعدم التجانس وقابليتها للتشوه تحت الضغط. هذا النوع من التربة يمثل كابوساً لآلات حفر الأنفاق (TBM) التقليدية. ولمواجهة هذا التحدي، قام وفد مغربي-إسباني مشترك بزيارة ميدانية لمشروع نفق “Rogfast” في النرويج. يُعتبر هذا النفق حالياً أعمق وأطول نفق طريق تحت البحر في العالم قيد الإنشاء. الهدف من الزيارة هو الاستفادة من الخبرات النرويجية في التعامل مع الضغوط العالية. كما يتعلمون كيفية الحفر في الصخور الصلبة والمعقدة تحت أعماق بحرية مماثلة.

قامت شركة الهندسة الألمانية العملاقة “Herrenknecht”، الرائدة عالمياً في تصنيع آلات حفر الأنفاق، بإجراء دراسات جدوى تفصيلية. الهدف هو تصميم آلة حفر (TBM) قادرة على التعامل مع الضغوط الهيدروستاتيكية العالية. كما يجب أن تتعامل مع طبيعة تربة الفليش المتغيرة في المضيق.

4. التصور المستقبلي: البنية التحتية والأثر الاقتصادي

تشير المخططات الحالية، التي تشرف عليها شركة الهندسة الإسبانية “Ineco” في إطار تحديث الدراسات الأولية، إلى أن المشروع لن يقتصر على نفق واحد، بل سيتكون من منظومة أنفاق متكاملة:

  • نفقان للسكك الحديدية: بقطر داخلي يبلغ 7.9 متر لكل منهما، يسمحان بمرور قطارات الركاب عالية السرعة وقطارات الشحن.
  • نفق خدمات مركزي: بقطر 6 أمتار، يقع بين النفقين الرئيسيين ويرتبط بهما عبر ممرات عرضية كل 340 متراً، مخصص للصيانة والإخلاء في حالات الطوارئ.7

من المتوقع أن يختصر النفق زمن السفر بين مدريد والدار البيضاء إلى حوالي 5 ساعات ونصف فقط، مقارنة بالرحلات الحالية الشاقة والمعقدة. وعلى الصعيد التجاري، تشير التقديرات إلى قدرة النفق على استيعاب نقل 12.8 مليون مسافر و13 مليون طن من البضائع سنوياً بحلول عام 2030، مع إمكانية زيادة هذه الأرقام مستقبلاً.7

5. التمويل والجدول الزمني: هل 2030 موعد واقعي؟

رغم الإرادة السياسية القوية لربط افتتاح النفق بفعاليات كأس العالم 2030، إلا أن التقييمات الهندسية المستقلة تميل إلى الحذر. فالمشروع يتطلب استثمارات ضخمة تتراوح تقديراتها بين 6 و8 مليارات يورو، وقد تصل إلى ضعف هذا الرقم عند احتساب البنى التحتية السككية المكملة.6

قامت الحكومة الإسبانية بزيادة مخصصات شركة SECEGSA بشكل كبير، رافعة ميزانيتها من 100 ألف يورو إلى 2.7 مليون يورو في عام 2024، بتمويل جزئي من صناديق التعافي الأوروبية (Next Generation EU).6 هذا الضخ المالي يهدف إلى تسريع الدراسات، لكن بناء نفق بهذا الحجم قد يستغرق عقداً من الزمان. السيناريو الأكثر تفاؤلاً يشير إلى إمكانية الانتهاء من الدراسات النهائية وبدء الأعمال التمهيدية (مثل نفق استكشافي) قبل 2030، على أن يدخل المشروع حيز التشغيل الكامل في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الحالي.2

القسم الثاني: الأوركا في المضيق.. تمرد الطبيعة وتحديات الملاحة

بينما تسعى البشرية لترويض قاع المضيق، تشهد مياهه السطحية ظاهرة بيئية فريدة ومقلقة. تتمثل هذه الظاهرة في “تفاعلات” حيتان الأوركا (Killer Whales) مع القوارب. بدأت الظاهرة في 2020 واستمرت في التصاعد والتحول حتى عام 2025.

1. توصيف الظاهرة: من حوادث معزولة إلى نمط سلوكي

تشتهر مجموعة فرعية من حيتان الأوركا بسلوك تفاعلي مميز. تُعرف هذه المجموعة بـ “الأوركا الأيبيرية” (Iberian Orca). يستهدف هذا السلوك بشكل خاص القوارب الشراعية متوسطة الحجم (أقل من 15 متراً). يتمثل هذا السلوك في اقتراب الحيتان من مؤخرة القارب. تركز على ضرب الدفة (Rudder) بقوة حتى كسرها أو تعطيلها. يؤدي ذلك إلى فقدان القارب القدرة على التوجيه.

الإحصائيات الجغرافية والزمنية: تظهر البيانات المجمعة من مجموعة العمل (GTOA) ومنظمة “Cruising Association” أن التفاعلات تتركز في منطقة مضيق جبل طارق. يوجد أيضًا تركز في خليج قادس خلال فصلي الربيع والصيف. تمتد هذه الفترة من أبريل إلى أغسطس. يتزامن ذلك مع موسم هجرة سمك التونة ذات الزعانف الزرقاء (Bluefin Tuna)، التي تعد الغذاء الرئيسي لهذه الحيتان. ومع ذلك، لوحظ في 2024 و2025 توسع النطاق الجغرافي ليشمل سواحل البرتغال، غاليسيا، وحتى خليج بسكاي في أوقات أخرى من العام، مما يشير إلى تتبع الحيتان لمسارات الهجرة أو توسيع نطاق نفوذها.10

الخسائر: حتى نهاية 2024، تسببت هذه التفاعلات في غرق ما لا يقل عن 7 قوارب ويخوت، كان آخرها حادثة قبالة سواحل البرتغال في أكتوبر 2024. ورغم الخسائر المادية الجسيمة، لم تُسجل أي هجمات مباشرة على البشر أو إصابات جسدية للطواقم.12

2. الفرضيات العلمية: بين “اللعب” و”الصدمة”

ينقسم المجتمع العلمي حول تفسير هذا السلوك الفريد عالمياً إلى نظريتين رئيسيتين:

  • فرضية “الموضة” أو اللعب (Fad/Play Theory): يرجح العديد من علماء الأحياء البحرية أن هذا السلوك هو شكل من أشكال اللعب الاجتماعي والتعلم بين الحيتان اليافعة. يجد الصغار والمراهقون في حركة دفة القارب تحت الماء محفزاً حسياً ولعبة تفاعلية. وبما أن الأوركا حيوانات اجتماعية للغاية، فإن هذا السلوك ينتقل “ثقافياً” عبر المحاكاة بين أفراد القطيع.12
  • فرضية “الصدمة والانتقام” (Trauma Hypothesis): تشير نظرية أخرى إلى أن السلوك بدأ كرد فعل دفاعي من أنثى بالغة (أطلق عليها اسم “White Gladis”) ربما تعرضت لإصابة من قارب أو علقت في شباك صيد. ونتيجة لهذه الصدمة، بدأت بمهاجمة القوارب كإجراء وقائي، وتعلم بقية القطيع هذا السلوك منها. ومع ذلك، فإن الطبيعة “المرحة” للتفاعلات وعدم استهداف هيكل القارب نفسه في كثير من الأحيان يرجح كفة نظرية اللعب لدى كثير من الخبراء.

3. استراتيجيات المواجهة: تضارب البروتوكولات (2025)

في ظل استمرار الظاهرة، يجد البحارة أنفسهم أمام بروتوكولات سلامة متناقضة، مما يزيد من حالة عدم اليقين:

  • البروتوكول الإسباني (MITECO): توصي وزارة التحول البيئي الإسبانية القوارب التي تتعرض لتفاعل بضرورة الملاحة نحو المياه الضحلة (أقل من 20 متراً) بأقصى سرعة ممكنة. يُعتقد أن الأوركا تتجنب المياه الضحلة جداً. كما توصي بالملاحة الساحلية كإجراء وقائي.11
  • البروتوكول البرتغالي وتوصيات GTOA: على النقيض، توصي مجموعة العمل الأطلسية (GTOA) والسلطات البرتغالية بوقف القارب تماماً. يجب إنزال الأشرعة وترك الدفة حرة الحركة. ينصح أيضاً بـ”التظاهر بالموت” (Playing Dead). الفلسفة هنا أن حركة القارب ومقاومة الدفة تحفز غريزة المطاردة واللعب لدى الحيتان. وبمجرد أن تتوقف “اللعبة”، تفقد الحيتان اهتمامها وتبتعد.11
  • التقنيات الرادعة: يلجأ البحارة إلى وسائل مبتكرة غير رسمية. ومن هذه الوسائل نثر الرمل في الماء للتشويش على السونار البيولوجي للحيتان. كما يصدرون ضوضاء معدنية (Banging pipes). ورغم أن بعض هذه الوسائل أظهرت نجاحاً محدوداً في حالات فردية، إلا أنه لا يوجد حل علمي موحد ومضمون. تُحذر السلطات من استخدام أجهزة صوتية مؤذية (Pingers) أو مفرقعات نارية. هذه الأدوات لها أثر سلبي على البيئة البحرية وتجريم قانوني.11

القسم الثالث: الديناميكية اللوجستية.. صراع الموانئ والتكامل

بالتوازي مع مشاريع الأنفاق وتحديات الطبيعة، يستمر النبض الاقتصادي للمضيق عبر موانئه العملاقة التي تشكل بوابات التجارة العالمية.

1. ميناء طنجة المتوسط: الهيمنة المتصاعدة

يواصل ميناء طنجة المتوسط (Tanger Med) ترسيخ مكانته كقوة لوجستية عظمى في حوض المتوسط وأفريقيا.

  • الأداء القياسي في 2024: حقق الميناء قفزة نوعية. تجاوز حاجز 10 ملايين حاوية نمطية (TEU) في عام 2024. مسجلاً نمواً بنسبة 18.8% مقارنة بالعام السابق. هذا الإنجاز يعزز موقعه كأول ميناء في أفريقيا والمتوسط، ويضعه في منافسة مباشرة مع أكبر موانئ شمال أوروبا.13
  • العائدات وحركة الشاحنات: بلغت عائدات الميناء ما يناهز 11.23 مليار درهم (حوالي 1.2 مليار دولار)، مدفوعة بنمو قوي في حركة شاحنات النقل الدولي (TIR) التي تجاوزت 516,000 وحدة، مما يعكس دوره المحوري في تصدير المنتجات الصناعية والزراعية المغربية إلى الأسواق الأوروبية.13

2. ميناء الجزيرة الخضراء: الكفاءة في مواجهة المنافسة

في الضفة المقابلة، يحافظ ميناء الجزيرة الخضراء (Algeciras) على مكانته كشريك ومنافس في آن واحد.

  • مؤشرات الأداء: رغم تسجيله تراجعاً طفيفاً في إجمالي حركة البضائع بنسبة 5% في عام 2024، إلا أنه صُنف كالميناء الأكثر كفاءة في أوروبا لعام 2024، والعشرين عالمياً، وفقاً لمؤشرات البنك الدولي.14
  • التكامل اللوجستي: يظل الميناء نقطة الدخول الرئيسية للصادرات المغربية وبوابة أوروبا للطاقة والبضائع السائبة. ومع إنشاء النفق المستقبلي، من المتوقع أن يتحول التنافس الحالي إلى تكامل وظيفي، حيث سيشكل الميناءان معاً “Hub” لوجستي عالمي موحد يسيطر على حركة التجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.

3. حركة العبارات والركاب: شريان الحياة اليومي

تظل الروابط البحرية التقليدية (العبارات) هي العصب الحالي للتنقل.

  • عملية مرحبا 2024: سجلت عملية عبور المضيق (OPE/Marhaba) أرقاماً قياسية تاريخية في صيف 2024، بعبور أكثر من 3.4 مليون مسافر و847,000 مركبة، بزيادة تقارب 9.3% في حركة المركبات عن العام السابق.15 هذه الأرقام تؤكد الحاجة الملحة لبديل ذي سعة عالية وموثوقية أكبر، وهو ما يعد به مشروع النفق السككي.

القسم الرابع: السياحة والتكامل الثقافي.. جسور بشرية

لا يقتصر التقارب بين الضفتين على البضائع والحيتان، بل يشمل تدفقاً سياحياً وثقافياً كثيفاً يعيد رسم معالم المنطقة.

1. طريفة وطنجة: توأمة عبر المضيق

تشكل مدينتا طريفة وطنجة نموذجاً للتكامل السياحي.

  • طريفة: تعد عاصمة للرياضات البحرية (Kitesurfing) بفضل رياحها القوية وشواطئها المفتوحة مثل “فالديفاكيروس” (Valdevaqueros). كما تحتضن تراثاً مغاربياً عريقاً يتجسد في قلاعها وأسوارها التي تشهد على قرون من التبادل الحضاري.16
  • طنجة: شهدت المدينة نهضة عمرانية وسياحية هائلة، مع تحويل مينائها القديم إلى مارينا سياحية فاخرة وترميم المدينة العتيقة. يتدفق السياح يومياً من طريفة عبر العبارات السريعة (رحلة 60 دقيقة) لزيارة معالم مثل مغارة هرقل، رأس سبارتيل، والقصبة، في رحلات اليوم الواحد التي أصبحت ركيزة للاقتصاد المحلي في المدينتين.17

2. تأثير النفق على السياحة

من المتوقع أن يُحدث النفق ثورة في القطاع السياحي، محولاً المنطقة إلى وجهة موحدة “Intercontinental Destination”. سيمكن الربط السككي السائحين من تناول الإفطار في إشبيلية. يمكنهم تناول الغداء في طنجة. ثم يمكنهم تناول العشاء في الدار البيضاء. هذا سيضاعف من أعداد الزوار. كما سيخلق منتجات سياحية مشتركة تدمج التراث الأندلسي والمغربي في باقة واحدة.

الخاتمة: توازن دقيق بين الطموح البشري وقوى الطبيعة

إن النظرة الشاملة لمشهد مضيق جبل طارق في 2025 تكشف عن تداخل معقد بين الطموحات الجيوسياسية الهائلة وقوى الطبيعة العنيدة. فمن جهة، يسير مشروع النفق بخطى حثيثة. يتم دفعه بإرادة سياسية عليا وزخم “مونديال 2030”. يتجاوز المشروع عقوداً من الشكوك التقنية بفضل التكنولوجيا الحديثة والتمويل الاستراتيجي. ومن جهة أخرى، تذكرنا الطبيعة عبر زلازل قاع البحر. تفاعلات الأوركا السطحية كذلك. لذلك، فإن أي تدخل بشري في هذا الممر الحيوي يجب أن يكون مدروساً بعناية فائقة. يجب أيضاً أن يكون محترماً للتوازنات البيئية.

مستقبل المضيق لن يُرسم فقط بآلات الحفر العملاقة أو الرافعات المينائية. بل سيتحقق ذلك بقدرة الدولتين، إسبانيا والمغرب، على صياغة نموذج تنموي مستدام. يدمج النموذج البنية التحتية المتطورة. في نفس الوقت، يحافظ على التراث الطبيعي والبيولوجي الفريد لهذه المنطقة. بذلك، يصبح المضيق بحق جسراً للسلام والازدهار بين القارتين.

  1. نفق مضيق جبل طارق.. الحلم الذي يقترب من أن يصبح حقيقة – الجريدة 24، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  2. المغرب وإسبانيا: النفق تحت البحر غير محتمل لكأس العالم 2030 – The New Arab، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  3. استثمرت إسبانيا نصف مليون يورو في أبحاث الزلازل لمشروع نفق المغرب، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  4. كأس العالم 2030 يعزز مشروع النفق في مضيق …، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  5. ما الذي يجعل ربط مضيق جبل طارق بين إسبانيا والمغرب تحدياً كبيراً؟، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  6. مشروع نفق سكة حديد جبل طارق يكتسب زخماً – FreshPlaza، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  7. مشروع النفق تحت البحر بين المغرب وإسبانيا يُعتبر قابلاً للتنفيذ تقنياً رغم تكلفة 8.5 مليار يورو – The North Africa Post، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  8. شركة ألمانية لإجراء دراسة جدوى للنفق المقترح بين المغرب وإسبانيا، تم الاطلاع عليه في ديسمبر 2025
  9. استثمرت إسبانيا 500,000 يورو في معدات رصد الزلازل لمشروع نفق المغرب، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  10. هجمات أوركا الإيبيرية – ويكيبيديا، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  11. مشروع CA Orca يصدر تحديثاً لمكتبة تعليقات القادة …، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  12. الأوركاس حول شبه الجزيرة الإيبيرية الأطلسية – Noonsite.com – أداة تخطيط الرحلات النهائية للقوارب، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  13. بلغ عائد ميناء طنجة المتوسط أكثر من 1.2 مليار دولار في 2024 – Morocco World News، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  14. ميناء الجزيرة الخضراء، الرائد في كفاءة الموانئ في أوروبا عام 2024، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  15. اختتمت عملية عبور المضيق 2024 بأرقام قياسية لحركة المركبات، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  16. السفر إلى طريفة – Lonely Planet | الأندلس، إسبانيا، أوروبا، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
  17. يوم واحد في طنجة: كيفية القيام برحلة نهارية إلى المغرب من طريفة، إسبانيا! – My Free Range Family، تم الاطلاع عليه في 6 ديسمبر 2025
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى