مال و أعمال

الكساد الكبير: أسبابه، أحداثه، وتداعياته العالمية

المحتويات عرض

الكساد الكبير (The Great Depression) أحد أكثر الأحداث الاقتصادية جسامةً في التاريخ الحديث. لقد أدّى إلى انهيار مفاجئ في الأسواق المالية. كما تسبب في ارتفاعٍ غير مسبوق في معدلات البطالة، وانكماش حاد في الإنتاج العالمي. وعلى الرغم من مرور عقود طويلة على وقوع هذه الأزمة، إلا أن تأثيرها لا يزال حاضرًا في الأدبيات الاقتصادية والسياسية. لقد أفضت الأزمة إلى تغييرات جذرية في نماذج السياسات الحكومية. كما تغير دور الدولة في الاقتصاد.

ومن اللافت للنظر أن أزمة الكساد الكبير لم تقتصر على الولايات المتحدة التي شهدت شرارتها الأولى. بل امتدَّت لتشمل غالبية دول العالم. بدأت من أوروبا الغربية ووصلت إلى آسيا وأمريكا اللاتينية. وقد أسهمت هذه الأزمة في إعادة صياغة الخريطة السياسية. وفتحت الطريق أمام صعود الأنظمة الاستبدادية في بعض البلدان. كما أعدت المسرح لصراعات عالمية لاحقة كان أشهرها الحرب العالمية الثانية.

في هذا المقال المطوّل، سنتناول بالتفصيل أسباب الكساد الكبير وأبعاده. سنوضح الأحداث المفصلية التي شكَّلت منعطفات حاسمة في مسار الأزمة. سنتطرق أيضًا إلى تأثيراته الاجتماعية والسياسية على نطاق واسع. كذلك سنتطرق إلى الاستجابات والبرامج الإصلاحية التي سعت الحكومات لتطبيقها. سنسلط الضوء على الدروس المستفادة من هذه التجربة التاريخية المريرة. كما سنوضح كيف أسهمت في إعادة رسم معالم النظام الاقتصادي العالمي المعاصر.


2. جذور الكساد الكبير: السياق التاريخي والاقتصادي

قبل اندلاع الكساد الكبير في عام 1929، شهدت الولايات المتحدة ودول عدة في أوروبا فترة انتعاش اقتصادي. كان هذا الانتعاش غير مسبوق خلال عشرينيات القرن الماضي. عُرفت هذه الفترة في الولايات المتحدة باسم “العشرينيات الهادرة” (Roaring Twenties). في هذه الحقبة، ازدهرت الصناعات الحديثة مثل السيارات والكهرباء، وتزايدت الثقة في أسواق الأسهم، مما أدّى إلى انتعاش مالي واسع.

على الصعيد الأوروبي، كانت الدول لا تزال تلتقط أنفاسها بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918). هذه الحرب خلَّفت وراءها ديونًا ضخمة ودمارًا واسع النطاق. وبالرغم من جهود إعادة الإعمار التي حققت بعض الانتعاش الصناعي، فإن الأسس الاقتصادية بقيت هشّة. لم تتمكن الحكومات من معالجة المشكلات المالية المعقّدة، بما فيها الديون الحربية والتضخم في بعض الأحيان. ناهيك عن التقلبات السياسية التي أسهمت في عدم الاستقرار.


3. الأسباب الرئيسية للكساد الكبير

3.1 طفرة المضاربات في سوق الأسهم الأمريكية

خلال عشرينيات القرن الماضي، شهدت بورصة وول ستريت ارتفاعًا حادًا في أسعار الأسهم. زادت المضاربات بشكل غير عقلاني. اندفع المستثمرون، ومنهم أفراد ليس لديهم وعي استثماري عميق، لشراء الأسهم بالهامش. اعتمدوا على قروض بنكية قصيرة الأجل. ومع ارتفاع قيمة الأسهم بلا ضوابط اقتصادية حقيقية، كان السوق عرضة لانهيار مفاجئ. يحدث ذلك بمجرد تراجع ثقة المستثمرين أو تسارع عمليات البيع.

3.2 ضعف النظام المصرفي الأمريكي

كانت الولايات المتحدة تعتمد آنذاك على بنوك محلية صغيرة تفتقر إلى السيولة الكافية أو نظام تأمين الودائع. ولذلك، عند بدء انهيار سوق الأسهم، أسرع المودعون إلى سحب أموالهم. بسبب نقص السيولة المالية، انهارت مئات البنوك في سلسلة من ردود الفعل المتتالية. أدى ذلك إلى تقليص المعروض النقدي بشكل كبير. ترك هذا الاقتصاد يئن تحت وطأة الانكماش الحاد.

3.3 السياسات النقدية والمالية الخاطئة

أصر الاحتياطي الفيدرالي في تلك الفترة على سياسة نقدية انكماشية، معتقدًا أن رفع أسعار الفائدة سيكبح جماح المضاربات ويثبِّت الأسعار. لكن النتيجة الفعلية كانت زيادة انكماش المعروض النقدي وتراجع القدرة على الاقتراض والاستثمار. وعلى الصعيد التجاري الدولي، سنّت الحكومة الأمريكية قانون التعريفة الجمركية “سموت-هاولي” (Smoot-Hawley Tariff) في عام 1930. هذا القانون حفَّز الحمائية التجارية عالميًا. وأدى ذلك إلى انهيار إضافي في حجم التجارة العالمية.

3.4 أزمة القطاع الزراعي والجفاف (Dust Bowl)

في قلب الولايات المتحدة، عانى المزارعون من تراكم الديون منذ الحرب العالمية الأولى. شجعت الحكومة على التوسع الزراعي لتلبية الطلب العالمي على الحبوب. ومع نهاية الحرب، تراجع الطلب، لكن الديون المتراكمة ظلت عبئًا ثقيلاً. ثم جاءت موجة جفاف شديدة في مناطق السهول الكبرى (Great Plains). عُرفت باسم “Dust Bowl“. تسببت في تصحُّر الأراضي الزراعية. حدث نزوح جماعي للسكان بحثًا عن العمل في المدن.

3.5 تداعيات الحرب العالمية الأولى والديون الدولية

على الصعيد الأوروبي، كانت دول عديدة مثقلةً بديون الحرب. تعيّن على ألمانيا على سبيل المثال دفع تعويضات هائلة وفقًا لمعاهدة فرساي. تراكمت الديون المتبادلة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة. لذلك، أي هزة اقتصادية في أمريكا تنتشر سريعًا إلى أوروبا عبر سلاسل التمويل والتجارة.

وبناءً على هذه الأسباب المتشابكة، تجلّت بوادر الكارثة الاقتصادية في نهاية عشرينيات القرن الماضي. ولكن كيف اندلعت شرارة الكساد على أرض الواقع؟ دعونا نكتشف الأحداث الهامة التي شكّلت اللحظات الأساسية في مسار الانهيار.


4. الأحداث المفصلية في اندلاع الكساد الكبير

4.1 الخميس الأسود والثلاثاء الأسود (1929)

بدأت المأساة يوم الخميس الأسود (24 أكتوبر 1929). في هذا اليوم، انخفضت أسعار الأسهم بشكل حاد. تبعها الثلاثاء الأسود (29 أكتوبر 1929). في هذا اليوم، انهارت قيم الأسهم بشكل دراماتيكي. كان الذعر سيد الموقف في بورصة نيويورك، إذ هرع المستثمرون لبيع أسهمهم بأي سعر ممكن، ما فاقم الانهيار المالي. وجديرٌ بالذكر أن أسعار الأسهم فقدت حوالي 40% من قيمتها في غضون أسابيع قليلة.

4.2 انهيار القطاع المصرفي (1930-1933)

شهدت الولايات المتحدة خلال الفترة (1930-1933) انهيارًا مصرفيًا غير مسبوق؛ إذ أفلست آلاف البنوك، وفقد ملايين الأفراد مدخراتهم. وقد أدى هذا الانهيار إلى شلّ الائتمان في الاقتصاد. لم تعد المشروعات قادرة على الحصول على قروض تشغيلية. لم تتمكن أيضًا من الحصول على استثمارات جديدة.

4.3 السياسات الحمائية وتراجع التجارة العالمية

أمل صُنّاع القرار الأمريكي أن يؤدي رفع التعريفات الجمركية إلى حماية الصناعة الوطنية من المنافسة الخارجية. لكن هذا القانون (سموت-هاولي) أثار ردودًا انتقامية من الدول الأخرى. رفعت الدول الأخرى بدورها التعريفات على السلع الأمريكية. وبذلك انخفضت التجارة العالمية بما يقدر بحوالي 60% بين عامي 1929 و1933. تسبب ذلك في مزيد من الانكماش الاقتصادي على الصعيد العالمي.

ومع انهيار البنوك وتقلص التجارة العالمية، خرج الكساد الكبير من إطاره الأمريكي ليشمل اقتصادات العالم بأسره. فكيف تأثرت بقية الدول بهذه الأزمة الطاحنة؟


5. انتشار الأزمة عالميًا وتأثيرها على الاقتصادات الكبرى

5.1 أوروبا: تصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية

كان الاقتصاد الأوروبي ما يزال يعاني من آثار الحرب العالمية الأولى، ما جعله أكثر عرضة للتأثر بالأزمة الأمريكية. انهيار البنوك الأمريكية أدى إلى سحب رؤوس الأموال من أوروبا. تأثرت ألمانيا والنمسا بشكل خاص، حيث كانتا تعتمدان بصورة كبيرة على التمويل الأمريكي. تضافرت هذه العوامل مع التقشف المالي في بعض الدول. أدى ذلك إلى خلق بيئة مناسبة لتنامي النزعات القومية المتطرفة. ومن الأمثلة على ذلك صعود النازية في ألمانيا.

5.2 أمريكا اللاتينية: تقلبات في أسعار المواد الأولية

اعتمدت دول أمريكا اللاتينية اعتمادًا كبيرًا على تصدير المواد الخام والمنتجات الزراعية. ومع انهيار الطلب العالمي وانخفاض أسعار السلع، واجهت هذه الدول ركودًا اقتصاديًا قاسيًا. ارتفعت معدلات البطالة والفقر، وازداد الاعتماد على القروض الخارجية.

5.3 آسيا: تراجع الصادرات وتعميق الركود

في اليابان والصين ودول أخرى في شرق آسيا، تضررت صادراتها بسبب تقلص الأسواق الأمريكية والأوروبية. كان التأثير الأكبر في صادرات الحرير والسلع الزراعية. ولم تكن الأنظمة المالية الآسيوية قادرة على تحمّل الصدمة، ما أدى إلى سياسات نقدية متشددة عمَّقت بدورها حدة الانكماش.

وكما نرى، لم تسلم قارة من قارات العالم من انعكاسات الكساد الكبير. الأثر الأكثر مأسوية كان في التغييرات الاجتماعية والسياسية. هذه التغييرات فرضتها الأزمة على حياة الأفراد والمجتمعات.


6. التداعيات الاجتماعية والسياسية للكساد الكبير

6.1 البطالة والفقر والهجرة الداخلية

فقد الملايين وظائفهم في الولايات المتحدة وأوروبا، وتراجعت الأجور بشكل حاد. اضطُر كثيرون إلى هجرة المناطق الريفية المتضررة من الجفاف (مثل Dust Bowl) بحثًا عن عمل في المدن الصناعية. لم تكن فرص العمل متوفرة. أدى ذلك إلى تشكّل أحياء فقيرة ومعسكرات مؤقتة تسمى “Hoovervilles“. كان هذا في إشارة إلى الرئيس الأمريكي هربرت هوفر، الذي اعتبره كثيرون مسؤولًا عن سوء إدارة الأزمة.

الجدول 2: مؤشرات اقتصادية أمريكية قبل وأثناء الكساد الكبير

المؤشر1929 (قبل الانهيار)1933 (ذروة الأزمة)
معدل البطالة3.2%حوالي 25%
عدد البنوك المفلسةأكثر من 9000 بنك
الناتج الصناعي100 (مؤشر الأساس)54 (انخفاض حاد)
أسعار الأسهم (مؤشر داو جونز)381 نقطة (ذروة)حوالي 50 نقطة (انهيار)

6.2 التحولات السياسية وصعود الحركات المتطرفة

استغلّت بعض الحركات والأحزاب السياسية المتطرفة حالة السخط الاجتماعي للظفر بالسلطة. فقد صعد أدولف هتلر في ألمانيا مستندًا إلى خطابات قومية وأفكار إعادة هيبة ألمانيا بعد الكساد الكبير. كما ظهرت حركات شعبوية في بلدان أوروبية أخرى، متعهدة بإيجاد حلول سريعة للأزمة الاقتصادية.

6.3 التأثير على الثقافة والفنون والأدب

انطبعت الحقبة بآثار الكساد في النتاج الأدبي والفني، إذ ظهرت أعمال تناقش قسوة الحياة في الريف الأمريكي وجشع المؤسسات المالية. من الأمثلة الشهيرة رواية “عناقيد الغضب” (The Grapes of Wrath) للكاتب جون ستاينبيك. صورت الرواية معاناة المزارعين. كما أبرزت مشقات النزوح بحثًا عن سبل العيش.

وسط هذا المشهد الكئيب، عرفت بعض الدول محاولات إصلاحية مهمة. هدفت هذه المحاولات إلى احتواء تداعيات الكساد الكبير. من أشهر هذه المحاولات برنامج “الصفقة الجديدة” الذي أطلقه الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت.


7. برامج الإصلاح والاستجابة للأزمة

7.1 الصفقة الجديدة (New Deal) في الولايات المتحدة

تولَّى الرئيس فرانكلين د. روزفلت رئاسة الولايات المتحدة عام 1933، واعتمد سياسة واسعة النطاق تحت عنوان “الصفقة الجديدة” لتخفيف آثار الأزمة. شملت هذه السياسة عدة جوانب:

  1. إصلاح النظام المصرفي: أُغلقت البنوك الضعيفة، ووُضع نظام ضمان الودائع عبر إنشاء المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع (FDIC).
  2. تشجيع التوظيف: أُطلقت مشروعات أشغال عامة ضخمة مثل بناء الجسور والطرق والمتنزهات، لتوفير فرص عمل للعاطلين.
  3. دعم المزارعين: قُدِّمت إعانات مالية للمزارعين، وتم تنظيم كميات الإنتاج الزراعي للحفاظ على استقرار الأسعار.
  4. قوانين الضمان الاجتماعي: تم تأسيس برنامج الضمان الاجتماعي لتوفير معاشات التقاعد وتأمين البطالة.

7.2 محاولات الإصلاح في أوروبا: بريطانيا وألمانيا وفرنسا

  • بريطانيا: اعتمدت سياسات مالية ونقدية أكثر مرونة. تخلّت عن قاعدة الذهب وخفَّضت قيمة الجنيه الاسترليني. هذا أسهم في زيادة الصادرات وإنعاش الاقتصاد تدريجيًا.
  • فرنسا: شهدت حالة من عدم الاستقرار السياسي وتغيُّر الحكومات بشكل متكرر، مما عرقل تنفيذ إصلاحات ناجعة. لكن حكومة ليون بلوم (الجبهة الشعبية) حاولت تطبيق إجراءات اجتماعية لدعم العمال.
  • ألمانيا: مع وصول النازيين إلى الحكم عام 1933، بدأت سياسات اقتصادية تهدف إلى تقليص البطالة. كانت هذه السياسات من خلال مشروعات البنية التحتية والتسلح العسكري. مهّدت هذه السياسات لاحقًا لبداية الحرب العالمية الثانية.

7.3 انعكاس الكساد الكبير على الاستعمار والدول النامية

تضررت المستعمرات نتيجة انخفاض الطلب على المواد الخام. شعرت المستعمرات بظلم اقتصادي وسياسي متزايد. وهذا الشعور غذّى حركات الاستقلال في آسيا وإفريقيا في العقود اللاحقة. ومن الجدير بالذكر أن تراجع القوى الأوروبية أثناء الكساد ساعد تلك الحركات على التبلور.

بعد استعراض الخطط الإصلاحية في الولايات المتحدة وأوروبا، نتساءل: كيف انتهى الكساد الكبير، وما علاقة ذلك بالحرب العالمية الثانية؟


8. نهاية الكساد الكبير وعلاقته بالحرب العالمية الثانية

8.1 دور الإنفاق العسكري في إنهاء الأزمة

شهدت نهاية الثلاثينيات تصاعد التوترات الدولية التي أدّت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939. على الرغم من أهوال الحرب، أدى الإنفاق العسكري الضخم من قِبل الحكومات إلى إنعاش القطاع الصناعي. كما زاد الطلب على العمالة لإنتاج الأسلحة والمعدات. بهذا الشكل، وجد الاقتصاد الأمريكي والأوروبي مخرجًا من الكساد عبر التحول إلى اقتصادات حرب.

8.2 الدروس الأولية من التدخل الحكومي

أثبتت تجربة “الصفقة الجديدة” والإجراءات العسكرية اللاحقة. لقد ظهر أن تدخل الحكومات لإنعاش الاقتصاد يمكن أن يكون ذو فعالية أفضل. في أوقات الأزمات، يعد التدخل الحكومي أكثر فعالية من ترك السوق حرًا. وعلى الرغم من استمرار الجدل بين مدارس الفكر الاقتصادي حول مدى تأثير هذه التدخلات، فإنها شكّلت الأساس للفكر الكينزي. نشأ الفكر الكينزي نسبة إلى جون ماينارد كينز. يوصي الفكر الكينزي بزيادة الإنفاق الحكومي في فترات الركود لتشجيع الطلب وتجنب الانهيارات الحادة.

ومن ثم، أصبح الكساد الكبير مرجعًا أساسيًا في تحليل وفهم الأزمات اللاحقة. وهذا يشمل الأزمات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، وأشهرها الأزمة المالية العالمية 2008.


9. الكساد الكبير والأزمات الاقتصادية الحديثة

9.1 مقارنة بالأزمة المالية العالمية (2008)

أُطلق على أزمة 2008 اسم “الركود العظيم” (Great Recession)، واستمدت الكثير من المقارنات مع الكساد الكبير. نشأت هذه الأزمة من فقاعة سوق العقارات الأمريكية والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري. وعلى الرغم من الفروقات الزمنية والمؤسسية، إلا أن عدة أوجه تشابه برزت:

  1. الدور المحوري للقطاع المالي: في الكساد الكبير، انهارت البنوك نتيجة المضاربات. أما في أزمة 2008، فانهارت شركات مالية ضخمة (مثل Lehman Brothers) بسبب التخلف عن سداد القروض العقارية.
  2. رد الفعل الحكومي: لجأت الحكومات في الحالتين إلى تدخلات قوية لاحتواء الأزمة. في 2008، شملت هذه التدخلات خطط إنقاذ للبنوك وشركات التأمين الكبرى، وحزم تحفيز مالية.
  3. التأثير على البطالة والنمو: شهد العالم في الحالتين ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات البطالة. كما شهد انكماشًا في النمو الاقتصادي. كانت أزمة 2008 أقل حدةً من حيث استمرارها الزمني مقارنة بالكساد الكبير.

الجدول 1: مقارنة بين الكساد الكبير والأزمة المالية العالمية 2008

العنصرالكساد الكبير (1929-1939)الأزمة المالية العالمية (2008-2009)
الأسباب الرئيسية– انفجار فقاعة المضاربات في الأسهم
– ضعف البنوك وفقدان الثقة
– سياسات نقدية انكماشية
– زيادة التعريفات الجمركية
– انفجار فقاعة الرهن العقاري
– استخدام مُشتقات مالية معقدة
– ضعف الرقابة المالية
– تداخل كبير في الأسواق المالية العالمية
معدل البطالة (في ذروته)حوالي 25% في أمريكاحوالي 10% في أمريكا (ولكن أعلى في دول أخرى)
معدل انكماش الاقتصادانكماش حاد تجاوز 30% في الناتج المحلي الإجمالي لبعض السنواتانكماش لعدة أرباع، لكنه أقل حدة من الكساد الكبير
دور السياسات الحكوميةتدخل محدود في البداية، ثم جاءت الصفقة الجديدة مع روزفلتتدخلات حكومية وبنوك مركزية مبكرة، وخطط إنقاذ ضخمة
المدى الزمني للأزمةاستمرت حوالي 10 سنواتحوالي 18 شهرًا بشكل رسمي (2008-2009)، مع تبعات بعدها
الآثار بعيدة المدىصعود الأنظمة المتطرفة (النازية)، وإعادة تشكيل دور الدولة في الاقتصادإصلاحات في الأنظمة المصرفية، وتعزيز الرقابة المالية

9.2 أوجه التشابه والاختلاف في السياسات المالية

  • السياسات النقدية: في الكساد الكبير، قُيّدت السياسة النقدية بقاعدة الذهب ولم يكن هناك آنذاك خبرة كبيرة في إدارة الأزمات المالية. أما في 2008، فاستُخدمت آليات مثل التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية.
  • التدخل الحكومي: أصبح العالم أكثر تقبلًا لفكرة التدخل الحكومي بعد التجارب القاسية للكساد الكبير. وهذا سهّل تقديم حزم الإنقاذ الضخمة في 2008 و2020 (جائحة كورونا).
  • مدى العولمة: كان العالم عام 1929 أقل عولمةً مما هو عليه اليوم، ومع ذلك امتدت آثار الكساد في كل مكان. أما في 2008، فقد انتشرت الأزمة بسرعة البرق عبر الأسواق المالية المتداخلة دوليًا.

ومن هنا، يتضح لنا أن دراسة الكساد الكبير توفر لنا أداة ثرية. هذه الدراسة تساعدنا في فهم الأزمات الاقتصادية المعاصرة. كما تمكننا من التعامل معها بصورة أسرع وأكثر فعالية.


10. دروس مستفادة وتأثيرات بعيدة المدى

10.1 دور الحكومات في إدارة الأسواق

أظهرت الأزمة أن ترك الأسواق دون تنظيم قد يؤدي إلى كوارث مالية عميقة. ومنذ ذلك الحين، بات التدخل الحكومي أكثر قبولًا. يتم ذلك عن طريق سنّ التشريعات لحماية القطاعات المصرفية. كما يتحقق من خلال السياسات المالية الداعمة (Fiscal Policies) في أوقات الركود.

10.2 إصلاحات النظام المالي والمصرفي

أدّى انهيار آلاف البنوك في الكساد الكبير إلى ظهور تشريعات هامة. كان من بينها قانون جلاس-ستيغال (Glass-Steagall Act) في الولايات المتحدة. هذا القانون فصل بين الأنشطة المصرفية الاستثمارية والتجارية. وعلى الصعيد العالمي، باتت البنوك المركزية أكثر وعيًا بضرورة الحفاظ على استقرار النظام المصرفي. ساعد هذا الوعي في تخفيف حدة الأزمات اللاحقة.

10.3 النموذج الكينزي والتخلي عن سياسات عدم التدخل

ساهم الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز في وضع الأسس النظرية للتدخل الحكومي في الاقتصاد. هو اعتبر أن الإنفاق العام هو وسيلة فعالة لتحفيز الطلب. يمكن لتلك الوسيلة تجاوز حالات الكساد. ومع الوقت، أصبحت أفكار كينز مؤثرة في أغلب سياسات الدول الصناعية، وخصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية.

من الواضح أن الكساد الكبير لم يكن مجرد أزمة عابرة، بل كان حدثًا شكل مستقبل السياسات الاقتصادية في العالم. فما هي أبرز نقاط الخلاصة حول هذا الحدث الذي هزّ النظام المالي والاجتماعي؟


الخلاصة

يُعَدُّ الكساد الكبير واحدًا من أعنف التحديات الاقتصادية التي واجهت البشرية خلال القرن العشرين. فلم تقتصر تداعياته على الأسواق المالية فحسب. بل امتدّت لتطال حياة الناس اليومية. تسببت هذه الأزمة في ارتفاع معدلات البطالة. كما أدت إلى تدهور المستويات المعيشية وتنامي الحركات السياسية المتطرفة. وقد كشفت الأزمة مواطن الضعف في بنية الاقتصاد الرأسمالي. كما أسهمت في تغيير النظرة لدور الحكومات في ضبط الأسواق. وأسهمت أيضًا في دعم الفئات المتضررة.

من جهة أخرى، ألهمت تجربة الكساد الكبير مجموعة من الإصلاحات والسياسات التي شكلت الأساس للاقتصاد الحديث. بدأت مع نظام الضمان الاجتماعي في الولايات المتحدة. وصلت هذه الإصلاحات إلى التشريعات المنظمة للقطاع المصرفي. كما عززت مفهوم الاقتصاد الكينزي ودور الطلب الكلي. وبالرغم من انتهاء الأزمة مع اقتراب نهاية الثلاثينيات، إلا أن إرثها ظل حاضرًا في سياسات الدول. استمر إرثها في جهود مكافحة الركود.

وفي ظل عالم معولم اليوم، قد يساعدنا استذكار دروس الكساد الكبير على التعامل بفاعلية مع أي أزمات اقتصادية مستقبلية. نحن نتجنب بذلك تكرار أخطاء الماضي التي أهلكت الملايين وزعزعت الاستقرار العالمي.


اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى