اليوم العالمي للتسامح: دعوة إنسانية لترسيخ قيم السلم والاحترام
في عالم تتسارع فيه التحديات وتتشابك الصراعات، يبرز اليوم العالمي للتسامح بوصفه محطة سنوية. تستعيد فيها البشرية قدرتها على الإصغاء إلى صوت العقل. ترجع إلى تلك القيم الأخلاقية العميقة التي تجمع الشعوب أكثر مما تفرقها. فالتسامح ليس شعارًا عابرًا، بل هو بناء أخلاقي وثقافي وسياسي. تتأسس عليه العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، ويُعد شرطًا جوهريًا لأي سلم أهلي أو عالمي مستدام.
النقاط الرئيسية
- اليوم العالمي للتسامح يُعتبر دعوة لتعزيز قيم التسامح والحوار بين الشعوب.
- تأسست فكرة اليوم العالمي للتسامح عام 1993 من قبل الأمم المتحدة كوسيلة لمواجهة التعصب والعنف.
- التسامح يشمل احترام التنوع الثقافي، والقدرة على الحوار، وتقدير القيم الإنسانية.
- اليوم العالمي للتسامح يُعزز السلم الاجتماعي ويُساعد في محاربة خطاب الكراهية.
- يجب العمل على تعزيز التعليم القائم على القيم للتربية على المواطنة وحقوق الإنسان.
أصل الفكرة: تسامح بوصفه إعلانًا أمميًا
ترجع جذور الاحتفال باليوم العالمي للتسامح إلى بدايات تسعينيات القرن الماضي. حين أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1993 مبادرة تعلن عام 1995 عامًا دوليًا للتسامح. وقد تزامن ذلك مع جهود مكثفة قادتها اليونسكو. كان الهدف هو مواجهة تنامي التعصب والعنف، وإعادة الاعتبار لقيم الحوار والاحترام المتبادل.
وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 تبنت الدول الأعضاء في اليونسكو “إعلان مبادئ التسامح”. هو وثيقة غير مسبوقة في مضمونها الحقوقي والإنساني. وبعد عام واحد فقط، اعتمدت الأمم المتحدة القرار رقم 95/51 الذي جعل 16 نوفمبر يومًا عالميًا للتسامح. يحتفل به سنويًا.
ويؤكد الإعلان الأممي أنّ التسامح ليس مجاملة اجتماعية، ولا تنازلًا عن المبادئ. بل هو اعتراف كامل بحقوق الآخرين وحرياتهم شرط أنّ لا تمس قيم المجتمع وحرماته، وتقدير للتنوع الثقافي والفكري. هذا التنوع يشكل ثراءً للبشرية جمعاء.
مفهوم التسامح: رؤية أعمق من مجرد قبول الآخر
يختلط مفهوم التسامح في كثير من المجتمعات بمعانٍ مبسطة، إلا أن التعريف الأممي يضعه في إطار أشمل. فالتسامح هو:
- احترام للتنوع الثري للثقافات، واختلاف لغاتها وفنونها وطرائق تفكيرها؛
- قبول للآخر بوصفه جزءًا من الوجود الإنساني المشترك، ما دام في إطار المبادئ؛
- تقدير للقيم الإنسانية التي توحِّد البشر مهما تعددت انتماءاتهم؛
- قدرة على الحوار، وإرادة واعية لنبذ العنف والكراهية.
ولا يعني التسامح، كما تؤكد اليونسكو، اللامبالاة الأخلاقية أو التخلي عن المبادئ. بل يعني الدفاع عنها. والتمسك بالقيم.
أهمية اليوم العالمي للتسامح في عالم مضطرب
مع تزايد النزاعات المسلحة، وتصاعد خطاب الكراهية، وتنامي الشعبويات، يصبح اليوم العالمي للتسامح أكثر من مجرد مناسبة رمزية. إنه للعيش معا دون إقصاء. وكذلك محاولة لاستعادة لغة مشتركة بين الشعوب.
وتبرز أهمية هذا اليوم في جوانب عدة:
1. تعزيز السلم الاجتماعي
يعدّ التسامح حجر الأساس في بناء مجتمع مستقرّ، إذ يؤدي غيابه إلى تفكك العلاقات الاجتماعية وتزايد معدلات العنف والتمييز. فكلما ارتفعت درجة التسامح داخل المجتمع، زاد اعتماد أفراده على الحوار بدل الصراع، وعلى المشاركة بدل الإقصاء. ويسهم ذلك في خفض النزاعات الداخلية وتعزيز الإحساس بالأمان الفردي والجماعي.
ومن الناحية السوسيولوجية، تشير الدراسات إلى أن المجتمعات ذات المعدلات العالية من التسامح تسجّل مستويات أقل في الجريمة والكراهية. لأنها توفر بيئة يشعر فيها الفرد بالاحترام والمساواة. كما يساهم التسامح في خلق شبكات اجتماعية متماسكة. تبني الثقة بين فئات المجتمع المختلفة. ويدعم التضامن الاجتماعي خلال الأزمات الاقتصادية والصحية.
وتكمن أهمية الدور الحكومي هنا في وضع سياسات تهدف إلى نشر ثقافة التفاهم. وذلك عبر تشجيع الإعلام الأخلاقي، وتعزيز العدالة الاجتماعية، ودعم المبادرات التي تحارب التمييز. وقد أثبتت تجارب دول مثل كندا واليابان وهولندا أن تبني خطط تعليمية وقانونية تعترف بالتنوع الثقافي. ساهم في رفع مؤشر السلم المجتمعي وتعزيز الاندماج.
إنّ السلم الاجتماعي لا يبنى بالقوة، بل بالتفاهم، ولا يتحقق بالقيود الوضعية، بل بالاحترام المتبادل وإلتزام القيم.
2. دعم الحوار بين الحضارات
في عالم تحكمه العولمة، لم يعد التواصل بين الحضارات خياراً ثانوياً، بل بات حاجة ملحّة لإنقاذ البشرية من صدامات محتملة. فالحوار يشكل وسيلة أساسية لتقليل سوء الفهم الذي ينشأ عن اختلاف المعتقدات أو القيم أو الرؤى السياسية.
وقد لعب اليوم العالمي للتسامح دوراً محورياً في تعزيز مبادرات دولية واسعة. يشمل ذلك تحالف الحضارات الذي أطلقته الأمم المتحدة عام 2005. الهدف منه هو بناء جسور بين الدول الإسلامية والغربية بعد موجة التوترات العالمية. كما دعمت اليونسكو عشرات البرامج الموجهة للشباب لتعزيز التواصل الثقافي بين المجتمعات.
ولا يقتصر الحوار على المثقفين والنخب، بل يشمل المواطنين العاديين أيضاً. يتم ذلك من خلال التبادل الطلابي، والمنتديات الثقافية، والإعلام الرقمي. هذا الإعلام يسمح لأفراد من خلفيات مختلفة بالتواصل مباشرة. ويساعد هذا النوع من الحوار على تبديد الصور النمطية. يساهم في فهم تنوع الثقافات بوصفه مصدر ثراء وليس تهديداً.
كما تشير دراسات دولية إلى أن الدول التي تستثمر في مشاريع الحوار الثقافي تسجل معدلات أعلى من الاستقرار السياسي. السبب في ذلك هو أن المواطن يصبح أكثر استعداداً لتقبّل الاختلاف، وأكثر قدرة على فهم مواقف الآخرين.
3. تعزيز التعليم القائم على القيم
يعتبر التعليم المحور الأكثر تأثيراً في صناعة جيل يؤمن بالتسامح، إذ تنتقل القيم من المدرسة إلى الأسرة والمجتمع. فالمناهج التعليمية التي تركز على قيم التعاون، واحترام الآخر، وتقبل التنوع، تقلل احتمالات السلوك العدواني في المستقبل.
وقد قامت عدة دول، مثل فنلندا وسنغافورة والإمارات، بإطلاق برامج دراسية خاصة تعتمد على قيم المواطنة العالمية. تشجع الطلاب على المشاركة في مشاريع تطوعية بين ثقافات مختلفة. مما ساعد على خلق مجتمع أكثر انسجاماً.
وتظهر الأبحاث التربوية أن الأطفال الذين يتلقون تعليماً قائماً على قيم التسامح يطورون مهارات الحوار. يصبحون أقل تقبلاً للخطابات المتطرفة أو العنصرية. كما يعزز التعليم الأخلاقي قدرة الطلاب على حل النزاعات بطرق سلمية. ويؤثر مستقبلاً على سوق العمل خلال تكوين جيل قادر على التعاون في بيئات مهنية متعددة الثقافات.
ومن خلال الاستفادة من اليوم العالمي للتسامح، تستطيع المؤسسات التعليمية تطوير أنشطة مبتكرة مثل المحاضرات، والأعمال المسرحية، والمسابقات الفنية. هذه الأنشطة تعزز ثقافة التفاهم. مما يجعل المدرسة منبعاً لنشر السلم الاجتماعي.
4. محاربة خطاب الكراهية
يُعدّ خطاب الكراهية أحد أخطر التحديات التي تواجه العالم اليوم. خصوصاً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي حولت الرسائل المحرضة إلى محتوى واسع الانتشار. ويشمل خطاب الكراهية كل تعبير يهدف إلى تحقير فئة دينية أو عرقية أو لغوية أو سياسية. ويؤدي غالباً إلى العنف والتطرف.
تلعب الحكومات والأمم المتحدة دوراً مركزياً في وضع تشريعات صارمة للحد من التحريض. وأيضاً تطوير برامج تقنية ترصد المحتوى العنصري. تطبق عقوبات على مؤسسات إعلامية أو أفراد يساهمون في نشر الكراهية. كما تعمل اليونسكو، عبر برنامج “سلامة الصحفيين“، على تدريب الإعلاميين على كيفية التعامل مع قضايا التنوع الديني والعرقي دون الوقوع في خطاب التمييز. ودون فرض وضع خاص تمييزي للأقليات بذريعة التسامح.
وفي العصر الرقمي، باتت شركات التكنولوجيا مثل Meta وGoogle وX مطالبة بتطوير خوارزميات تمنع انتشار الخطابات العنيفة. لأن تجاهلها يؤدي إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمعات. وتشير تقارير دولية إلى أن الحد من خطاب الكراهية يسهم في تعزيز الاستقرار السياسي. ويقلل التوترات بين الفئات الاجتماعية.
ومع الاحتفال باليوم العالمي للتسامح، تطلق منظمات المجتمع المدني حملات توعية جماهيرية تُبرز مخاطر الكراهية على السلم الاجتماعي. تدعو هذه الحملات إلى التعامل مع الاختلاف من زاوية إنسانية. يجب أن تقوم الحملة على احترام كرامة الإنسان.
أشكال الاحتفال عالميًا وعربيًا باليوم العالمي للتسامح
تشارك مؤسسات رسمية ومجتمعية في مختلف الدول في الاحتفال باليوم العالمي للتسامح. وتشمل الأنشطة الشائعة:
- محاضرات حول حقوق الإنسان وقيم التعايش؛
- ندوات أكاديمية حول حوار الحضارات؛
- معارض فنية تحتفي بالتنوع الثقافي؛
- مبادرات تطوعية لتعزيز السلم الأهلي؛
- أوراش تربوية داخل المدارس لترسيخ مفهوم التسامح في الجيل الجديد.
وفي العالم العربي، بدأت العديد من المؤسسات الثقافية والجامعات والمجتمع المدني تخصيص برامج سنوية في 16 نوفمبر. هذه البرامج تعكس إيمانًا متزايدًا بأن التنوع جزء من هوية المنطقة وليس تهديدًا لها ما دام لايمس بالقيم والحدود.
التسامح في الثقافة الإنسانية
يبقى التسامح الحقيقي والأصيل قيمة إنسانية كونية لا تتجاوز حدود الأديان والثقافات والحضارات ولاتتعارض معها. فمنذ الفلسفات القديمة، برزت القناعة بأن الإنسانية لا يمكن أن تزدهر في بيئة يطغى عليها الحيف والمصالح. تؤكد أدبيات حقوق الإنسان المعاصرة الفكرة ذاتها. لا توجد نهضة حقيقية في مجتمع لا يحترم حرية الفرد مادامت مؤطرة بقيم راسخة. كما أنه لا يعترف بحقه في الاختلاف دون تخلف أو انحراف. فازدهار الإنسان لا يتحقق إلا داخل فضاء تتفاعل فيه الآراء، وتصان فيه الكرامة والحقوق والأعراض. ويحتفى فيه بالتنوع الإيجابي باعتباره مصدر قوة لا سببًا للصراع.
لا يمكن للإنسانية أن تزدهر في بيئة يسودها الإقصاء والظلم. يجب أن يكون هناك فضاء يحترم فيه الفرد حق الآخر في أن يكون مختلفًا ما دام لم ينحرف عن القيم.
إنه مبدأ يحفظ كرامة الإنسان، ويمنح المجتمعات القدرة على الاستمرار والتطور دون صراع دائم.
نحو مستقبل أكثر تسامحًا
الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو تذكير مستمر بضرورة حماية السلم الإنساني. ويتطلب ذلك:
- نشر التربية على المواطنة وحقوق الإنسان؛
- تعزيز الحوار بين الثقافات؛
- تشجيع الإعلام الأخلاقي المسؤول؛
- مواجهة خطابات الكراهية بقوة القانون وثقافة الوعي؛
- دعم المبادرات الشبابية التي تعلي قيم الاحترام المتبادل.
فالإنسان المتسامح ليس شخصًا ضعيفًا، بل شخص يمتلك قوة داخلية تسمح له برؤية العالم بعين إنسانية تتجاوز الانقسامات الضيقة.
خلاصة
يمثل اليوم العالمي للتسامح دعوة مفتوحة إلى جميع شعوب العالم كي تتجاوز خلافاتها. وتحتفي بما يجمعها من قيم إنسانية مشتركة. إن تسليط الضوء على هذه المناسبة يعزز ثقافة السلام. يعيد الاعتبار إلى فضائل إنسانية. هذه الفضائل تمثل أساس التقدم والاستقرار.
وفي ظل التعقيدات التي يشهدها عالم اليوم، يظل التسامح واحدا من الركائز الأخلاقية الأكثر قدرة على حماية مستقبل البشرية. هو الأساس في بناء عالم يعترف بالاختلاف ويتسع للجميع.
